إن التاريخ تنضوي تحته أسرار ومفاهيم لا يمكن حصره في الأحداث والأرقام و حسب.
بل هو استقراء تام لمجتمع في زمن من الأزمنة، و ذلك من الناحية الدينية والسياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الجغرافية
حينها سيتحصل للشخص فهم العالم، ولشساعة هذا العلم وجماليته استُعمل في مجالات عدة.
من بينها: الأفلام، و الوثائق التصويرية، و الأنيمي، و هذا الأخير دَحَس بيده في جسد التاريخ و جعله ركيزة من ركائزه يتلاعب به عبر أعمال فنية.
فهل هناك مانجا/أنيمي تناول أبعاد هذا العلم؟ وما هي اللمسة التي استعملها المانجاكا في تصوير التاريخ داخل عمله الفني؟
إن ساحة الأنمي تشهد أعمالا متنوعة في مجال التاريخ، فمنها من تناوله كأساس يقف عليه وينطلق من أحداثه، ومنها من تلفَّح ببعض سنواته وغَيَّر و قولب عصوره من أجل فكرته.
ومن تلكم الأعمال مانجا بيرسيرك للمانجاكا الفذ كيناترو ميورا، و هذه المانجا صبغها الكاتب بالبؤس والظلام، والقهر والاغتصاب، وانغلاق العقل وتَطَرِّف البنان (كناية عن الظلم ) ..
ولم يناسب جوها إلا عصر الانحطاط الذي أرخى سجوفه على القارة الأوربية فيما سمِّي بالعصور الوسطى، حيث شهدت حروبا وانهيارات.
إذ الجرمان و الفرس و البرابرة قد نهشوا لحم الروم، والقياصرة الطماعون وأصحاب الكروش استشروا كالمرض الخبيث داخل الإمبراطورية
كل هذه المحن جعلت الامبراطورية تحتضر، ولولا بعض الإسعافات من قسطنطين لانتهت باكرا، والمشاهد من لمسة ميورا أنه مزج بين تقاسيم العصور الوسطى، بين أولها وآخرها.
فأول هذه الحقبة يشابه الحروب التي وحد بها غايسيرك القبائل في القارة الغربية، جاعلا ميدلاند مركزا لقارته، وهذا الحاكم في الواقع مُقتبسٌ من حاكم الوندال جينسريڨ، وهو رجل عاش في رأس التاريخ الروماني، وكانت له صراعات طويلة مع الإمبراطورية الرومانية.
و يبدو أن “ميورا” جعل حكم هذا الرجل في قصته يتلبس بالحكم الروماني، نهايته شبيهة بالنهاية الرومانية، لم يبق من حكمه شيء سوى نسله الذين أسسوا على أنقاض حكمه مدينة جديدة.
يأتي في المانغا تصوير للمجتمع الميدلاندي من حيث المعتقد ومن حيث الحالة الاجتماعية، وكذا الاقتصادية والسياسية، فلننظر لهم قدر المستطاع…
- من الناحية الدينية: ميدلاند وما حولها شهدت تنصيرا بالقوة، إن رفضت الايمان بالمسيح والنور الإلهي فأنت جاحد عقوبتك الموت بأبشع الطرق، قاد هذه الحملة أنصار الصليب وزبانية الكنيسة، يحرقون الناس ويعذبونهم .. وما أشبه هذا بالبارحة، فأوربا كانت تدعو الناس إلى الجنة بشراء صكوك الغفران، بالإضافة إلى محاكم التفتيش، ناهيك عن التجنيد لصالح الكنيسة.
- من الناحية الاجتماعية: انقسم المجتمع الميدلاندي إلى قسمين؛ طبقة الآرستقراطيين الذين يحاولون اقحام نفوسهم في كل حفرة يرون داخلها ذهبا أو فضة، كما أنهم كثيروا الاحتكاك بالبورجوازيين؛ يحاولون بذلك صنع اسم ضخم لهم في البنية الاجتماعية. والقسم الثاني، طبقة الفقراء التي عانت من الفقر المدقع، ومن الاستغلال الطبقي، ومن المجاعات المنتشرة في كثير من المدن، ومن الموت الأسود، إن هذا هو نفسه ما حدث في أوربا، الأغنياء في بروجهم و الفقراء في مجاريهم وكلما حاولوا الانتفاضة قام الآرستقراطيون رفقة جنودهم يقمعونهم بالقتل والإعدامات المتكررة.
- من الناحية الاقتصادية: نرى المدينة الفاضلة التي انبعثت على يدي جريفيث على ما فيها من جمال ساحر وأمن شامل، إلا أن الاقتصاد لا زال يقضقض الدولة، فهم يعانون صعوبات في الدخل، كما أن الخزينة شبه فارغة، وهذا ما حدث في أوروبا، فهناك من الدول من باعت حقوق أراضيها لتسد جوع أبناءها، بل صارت في مشاكل ضخمة أكبرها الديون.
- و من الناحية السياسية: كانت ميدلاند في حيص بيص، متشتتة بين النزاعات الداخلية والحروب الخارجية، ولولا تدخل جريفيث لكانت ويندهام مدينة منسية، تجد هذا في تدخل قسطنطين يوم كادت الإمبراطورية الرومانية تسقط سقطة مريعة.
قبل أن أختم مقالي أود التطرق لمسألة الدمج التي استعملها المانجاكا بين أحداث حقبتين مختلفتين ألا وهي الحضارة الهندية و الأروبية.
نحن رأينا كيف واجه بين الكوشان وقوات ميدلاند وفرقة الصقور الجديدة، والحقيقة أن الكوشان فترتهم متقدمة، عاشوا في الهند وكان يحكمهم « كانيشكا» وهو رجل متسامح مع كثير من الديانات عكس ما صوره الكاتب، كما له الفضل في جعل الهند متقدمة من ناحية العلوم والفنون المختلفة.
تميز الكوشان بلباسهم الشبيه بالعربي أو بالتحديد الفارسي، وهذا راجع إلى احتكاك الفرس بالهند في كثير من المناسبات حتى أنك لتجد في عمارتهم وجيشهم نفحة من الفرس.
أنهي مقالي بالقول:
إن بيرسيرك ضم في فصوله عبق التاريخ بأبعاده الخمسة، ودمج بين حقوله وأضافه لمسة طيبة ترتسم في العلوم والتكنولوجية الحربية والفلاحية مما جعله عالما فريدا بحق.