إنني أتذكره، أحلم به، أراه أمامي كلما أغمضت عيناي، لم أستطع محو ذلك اليوم من ذاكرتي، و كيف سأنساه و فيه فقدت أمي و أبي و كل إخوتي ؟
كيف سأنساه وقد سرقت طفولتي على حين غرة ؟ من دون حتى أن أدري أصبحت رجلا، فقدت بيتي و عائلتي، بل فقدت حتى قريتي من دون أن يستوعب عقلي الصغير ما مايجري، كان الأمر أفظع من أشد الكوابيس رعبا، أرعب من أي فيلم شاهدته.
أتذكر في صباح ذلك اليوم أنني استيقظت كعادتي من نومي منتظرا فطورا شهيا من طرف أمي العزيزة، غسلت وجهي و نزلت للمطبخ، كان أبي يقرأ الصحيفة بينما أمي تعد لنا الفطور، أخي الصغير ذو 8 أشهر يلعب بالأكل و يصدر أصوات مضحكة، جلست قبالة أختي و كنت أحاول أن أزعجها ببعض تعبيرات وجهي، كنت أحب ازعاجها وقد كانت دائما تمتعظ مني، أصبح الفطور جاهزا وكلنا على المائدة.
مجرد عائلة صغيرة تعيش في سلام، لم نزعج أحدا ولم نرفع السلاح على أحد، فقط أردنا أن نعيش مع بعضنا في سلام و طمأنينة.
أنهيت فطوري بسرعة وخرجت مسرعا كي ألعب مع أفراد الحي، حمزة، نورس، أحمد… أتذكرهم جيدا واحدا واحدا و كانوا في انتظاري في مكاننا السري.
لحقتني أمي كي توصيني أن أحضر لها ملابس عند جارتنا لأخي الصغير، رفضت في البداية لكن نظرة واحدة من طرفها تجعلك تفكر مليا في قرارك (أحبك يا أماه)، و انتهى بي الأمر موافقا
ابتعدت قليلا عن المنزل و تركت أمي تحدق بي من على شرفة الباب، سمعت صوتا قويا، صوت طائرة ربما و نظرت للسماء متسائلا عن مصدر الصوت، لقد كانت طائرة بالفعل، ليست المرة الأولى التي أرى فيها طائرة لكنها كانت قريبة جدا منا و شكلها ليس مألوفا لي.
سمعت صراخا من أحد المارة لكن لم أفهم لما، رفعت نظري نحو الطائرة مرة أخرى وقد كانت أسقطت شيء، لقد كان واضحا لي رغم صغر سني أنها قنبلة وقد صرخت بدوري كي أنبه الجميع لكن بعد فوات الأوان…
حدث كل شيء في رمشة عين، حياة العشرات انتهت في ثانية…
سمعت صوت انفجار مدوي كاد أن يثقب طبلة أذني، سقطت أرضا بقوة والغبار ملأ المكان، كنت مرعوبا وصراخ الناس زادني رعبا، توالت الإنفجارات وتوال معها الرعب.
خائفا و حائرا، هذا هو الحال الذي كنت عليه، أردت أن أحتمي تحت أمي و أبي فالصراخ كان مرعبا، بعد أن اكنشفت لي الرؤية هرولت مسرعا نحو منزلي الذي لم أبتعد عنه كثيرا و ياليتني لم أفعل، فالموت كان أرحم.
لقد تحطم لأشلاء، أتحدث عن منزلي الذي أصبح خرابا، لم أصدق عيناي، لم أتعرف عليه من الوهلة الأولى لكن هذا هو مكانه، هنا يجب أن يكون منزلي و لايمكن أن أكون مخطئا، صرخت بأعلى صوتي “ماما، بابا، أولاك وينكم، ردو عليا مشان الله”
الكل حولي كان يصرخ و كلما ارتفعت الحناجر رفعت صوتي أكثر آملا أن أجد أحدا حيا، فجأة أرى أمي تخرج نفسها بين الحطام، لحسن حظها أنها لم تكن داخل المنزل، فرحت كثيرا وهرعت لنجدتها.
“ماما، انتي بخير هاه ؟ خليني أشيل عنك هاي الأشياء، وين بابا ؟ وين اخي و أختي ؟ ماما ليش مابتردي علي ؟” لترد علي امي بصوت خافت تكاد تسمعه وسط صراخ الناس
“ابني، انا ماني حاسة بشي، رجلي و إيدي ليمين اتحطموا، راح تعتمد على نفسك من هون وهيك ماشي ؟”
“لا ياماما، مشان الله لا تتركيني، مشان الله ماما، دخيلك لاتتركيني وحدي هون”
قاطعت امي نحيبي قائلة “سماع، انت رجال مو هيك ؟ انا راح أقل لله أنه يحميك، راح كون معك حبيبي، كون رجال ماشي ؟”
ظللت أبكي بحرقة وأمي تحاول أن تواسيني في لحضاتها الأخيرة في الحياة، فجأة أمي تسمع صوت صراخ أخي سامي…
لو كتبت ألف كتاب لن أجد صياغة مناسبة لوصف المشهد الذي رأيت، رأيت أمي بيد واحدة ودون ساقين وبشكل هستيري و مستميت تقترب من مكان الصوت، بمعجزة ما لازال أخي الرضيع حيا، و صرخت أمي علي كي آتي لنجدة أخي، ذهبت نحو الصوت وبدأت أنزع الحطام من على أخي الذي لم يظهر بعد
سقطت أمي من على الحطام وصرخت طلبا للنجدة.
“اولاك يا عالام، انقذوا ابني مشان الله، اولاك وينكم تعالو انقذوا ابني” (وظلت تبكي بحرقة)
بكاء أمي زادني قوة وعزم على اخراج أخي من الحطام و قمت برمي كل شيء وقف امامي، أخيرا رأيت يدي أخي و نزعت عنه كل شيء حتى أصبح حرا، كان مليئا بالغبار و يصرخ بشكل قوي، لكنه لازال حيا، استدرت فرحا نحو أمي، انتضرت منها شيء لكنها لم تقم بأي ردة فعل نزلت عندها كي أبشرها بنجاة أخي لكنها قد فارقت الحياة…
مع ذلك لم أيأس “ماما، شوفي شوفي، لا تنامي اخي عم يناديك، اولاك ماماااا… ليش روحتو كلكم وخلوتنا وحدنا ليش.. ماااماا اخي عم بيبكي ماماا”
جلست في مكاني حاملا أخي، أنظر لبيتي المحطم وعائلتي الميتة، لم أعرف في أي اتجاه سأذهب وماذا أفعل بنفسي و بأخي، رفعت رأسي للسماء طالبا من الله أن ينزل علينا قنبلة أخرى، لم أقوى على مفارقة عائلتي، بكيت و بكيت وطلبت النجدة حتى قدمت الينا مجموعة من الشباب، أخذونا على مكان تحت الأرض يحمينا من القصف، أخذوا أخي للعلاج فقد كان بالكاد يتنفس، نجاته من الحطام كانت معجزة بحد ذاتها.
بعد ساعات من الخوف و الترقب، سمعت خبر وفاة أخي وبهذا مات كل من أعرفهم جراء القصف…
كل هذا حدث في رمشة عين…
قصة ممتازة أخي محمد، سلمت أناملك
نسأل الله أن يوفقكم جميعا : )
نسأل الله التوفيق