أنميثقافة عامةمانغامراجعات المانغامقالات و مراجعات
صُلبان على أرض العرب
في الأسباب العمودية الأفقية لإخفاق المانجات العربية
مقدمة:
عبَّر الإنسان منذ القدم عن حياته وبيئته برسوم تم اكتشافها على جدران الكهوف والأهرامات وغيرها من بنايات الحضارات البائدة، فظهرت فطرية الإنسان في التعبير بالرسم، وهذه البذرة أزهرت ما نسميه قصصا مصورة منذ حوالي قرنين مضيا ثم اتخذت شكلها المتكامل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لتشتهر في أوربا وأمريكا واليابان.
وبعد مرور قرابة الأربعين سنة على هذا الحدث الثقافي، سيعرف العالم العربي حركتي ترجمة وتأليف للقصص المصورة الموجهة للأطفال خصوصا، ودخول هذا الفن إلى بعض الكتب المدرسية خاصة كتب تعليم اللغات.
ثم في مطلع القرن الواحد والعشرين، بزغ فجر الانترنت وأخذت العولمة تتسارع لتربط مشارق الأرض ومغاربها، ومن جملة ما سيثير اهتمام الشباب العربي إنتاجات المانجا اليابانية المثيرة.
ومنذ ذلك الحين انطلقت مبادرات فردية وجماعية للترجمة أو السعي نحو الإسهام بالتأليف لكن كان مصير هذه المبادرات إما التوقف أو الاستمرار المتواضع، وكتب للترجمة الاستمرار ليسرها وأخذت مبادرات التأليف النصيب الأوفر من الانقطاعات، والعناوين كثيرة كمجلة خيال ومجلة مانجاكا مو صاحيين…
في إطار مسابقة المواضيع، اقترح منافسي رصد أسباب فشل المانجات العربية من وجهة نظر خاصة، وهذه مساهمتي التقويمية والنقدية لعلّها تساعد على تطوير هذا المجال في وطننا العربي، فمعلوم أن أي مشروع إلا ويمر بمراحل ثلاث: التخطيك ووضع الأهداف – التطبيق – التقويم، ليعود من جديد ليضع أهدافا تنبني على نقط الضعف وأسباب الفشل المرصودة في مرحلة التقويم فتبدأ دورته من جديد، فإذا علمنا هذا برزت أهمية النقد وتتبع أسباب الفشل لتطوير أي مشروع.
عن الفشل:
الفشل لغة الخيبة وعدم بلوغ الأهداف، وقد اقترن قديما بالأمور السيئة التي تستحق العقاب، لكن تطور فهم الإنسان للواقع جعله يطور أيضا فهمه للفشل، ليجعل منه فرصة لاكتساب الخبرة والتجدد والتطور، ويصبح الفشل مرحلة انتقالية للوصول إلى النجاح لا نهاية المسار.
وبهذه النية أكتب هذا الموضوع لا بنية النقد من أجل النقد أو التيئيس و التبخيس.
منهج:
قضية كصناعة المانجا عربيا قضية مركبة تستدعي تدخل فاعلين كثر منهم: الكاتبون، الرسامون، دور النشر، الدولة عبر وزاراتها المعنية، الشباب…وكذلك تستدعي استحضار أبعاد ثقافية فنية ونفسية اجتماعية واقتصادية ودينية بل وحتى سياسية.
ثم إن إطلاق وصف الفشل على هذه المحاولات العربية دون استحضار لكل هذه المتداخلات وفي ظل عدم توفر المناخ الثقافي لنجاحها نوع من التجني والظلم ووأد لوليد لا زال في مهده، لذلك أضع كلمة “الفشل” بين مزدوجتين تحفظا على استعمالها الفضفاض.
ثلاثة مقاييس على أساسها يظهر “فشل” المحاولات العربية: الأفكار، الانتشار ثم الاستمرار، أعدد أسباب ضعفها، المترابطة المركبة المتقاطعة بين ما هو ذاتي (=الأفقي وهو ما تعلق بالمبدعين وانطلق من داخلهم) وموضوعي (=العمودي وهو واقع مفروض على المبدعين من فوق ومن خارج).
والأسباب الآتية ليست على نفس القوة والمباشرة في التأثير، ولا أدعي بتعدادها الحصر والتحديد، بل النظرة الشاملة تفرض مساهمة: الملاحظ والممارس وجهات داعمة مسؤولة، أما هذا الموضوع فيتناول الإشكالية من زاوية الملاحظ فقط.
أسباب:
إمكان: (عمودي)
نجح فن المانجا في اليابان لجذوره التاريخية الممتدة إلى القرن 12م ولاستغلال المناخ بعد الحرب العالمية الثانية الذي اتسم بالمأساوية لاسيما بعد تفجير قنبلتين نوويتين، فبرزت الحاجة الماسة إلى إبداعات تنفس الجو الخانق وتبعث الأمل وتصور المأساة وتنتقم عبر قوة ناعمة. وكذا تعزيز الانتماء القومي والاعتزاز بالأرض والأسلاف، بكل هذا وغيره نجح فن المانجا الياباني نجاحا باهرا على الصعيد الوطني ثم وصل إلى العالمية.
لكن هل استيراد فن ناجح إلى بلداننا العربية يحافظ على مكتسب النجاح ضرورة؟ ليس ذلك أمرا لازما.
فالظروف كما رأينا والتي رافقت بروز وسطوع نجم المانجا غير الظروف، والناس غير الناس. وهذه ملاحظة مهمة في التنظير لصناعة المانجا عربيا، فالبدايات مختلفة فكان لزاما أن ترافق عملية الاستيراد عملية لا تقل عنها أهمية وهي الأبعاد الفلسفية الموجِهة وكذلك المعارك النفسية والاجتماعية التي يجب أن تنطلق منها وهذا ما لم يحدث.
على السطح (أفقي)
بمرور سريع على بعض المانجات من رسم وكتابة العرب والمنشورة في منصات مثل الخارقون، مانغا عربية…يتبين أن هناك مواهب صاعدة في الرسم وتمكنا لا بأس به فيما يخص الأساسيات، وما يغيب عنها هو الأس: الرؤية الفلسفية المؤطرة للقصة، عمق الاقتباس التاريخي والعلمي…
فيظهر أن المحاولات العربية لم تسبر اغوار فن المانجا على حقيقته بعد ولا تزال تسبح على السطح.
تعليب لا تعليم (عمودي)
للضحالة الفكرية مسؤولية ذاتية لكن جزء منها موضوعي أيضا، فهي نتيجة وانعكاس مباشر لمستوى التعليم المتدني في دولنا العربية، دول في طريق النمو على كل المستويات لاسيما التعليمي والثقافي والفني، أما الذوق الجمالي فيستمر بالانخفاض مقابل ارتفاع منسوب التفاهة.
ولا زالت المقررات الدراسية تركز على تقديم المعلومات وضخها في عقول الناشئة في فعل أقرب إلى التعليب منه إلى التعليم، ولا تعطي الأولوية لمناهج التفكير وآليات البحث التي تشكل أدوات أساسية يجب أن ترافق المانجاكا العربي كمرافقة القلم والورق له، بل هي أساسية لكل مبدع أيا كان مجال تخصصه.
فالتخلف التعليمي والثقافي يلعب دورا مهما في التأثير على المانجا عربيا، منتجين وقراء على حد السواء.
غياب الأصالة والتجديد (أفقي)
تتمايز القصص المصورة بين الشرق والغرب بشكل لافت رغم انتمائهما لنفس الأصل، خذ المانجا اليابانية مثلا، تجد اصالة تربط بين أجيال المانجاكا ينضاف إليها الجدة والتجديد المواكبان لتطور العصر وتغيراته، وهذا ما ينقص المانجا العربية، فيتوهم الفنان العربي أن “عروبة” المانجا تعني مجرد لغتها أو اقتباساتها للأسماء والأماكن أو بعض من قصص التراث، والأمر يتجاوز ذلك فلابد من معالجة القضايا المطروحة في الساحة العربية (أصالة) لكن بتنويع لزوايا النظر وطرق طرح الأفكار (تجدبد).
لكن هل الشعوب العربية لها من الاستعداد ما يكفي لتقبل هذه المانجات؟
رسوم غير متحركة (عمودي)
الأنمي في العقل الجمعي العربي “رسوم متحركة”، وبالمثل فالمانجا مجرد أدوات للترفيه والتنكيت موجهة للأطفال وتعالج المواضيع بسطحية، إنها “رسوم غير متحركة” فقط هذا هو الفرق بينها وبين الأنمي.
الأدهى والأمر أن هذه الرؤية القاصرة للمانجا تنتشر عند الكثير من مشاهدي الأنمي أيضا، الذين ارتفعت عندهم مستويات الدوبامين بفعل الصورة والصوت والألوان والحركة حتى لم يعودوا يستسيغون قراءة المانجا، وإذا اضطروا لذلك بسبب توقف أنمي مفضل لهم، قرؤوا المانجا قراءة مقال في الجريدة.
إذا كانت فئة محبي الأنمي الياباني تفتقر للاطلاع على المانجا فكيف بعامة الناس؟ ثم كيف لمن استخف بالمانجا اليابانية الناجحة أن يولي الاهتمام للمانجا العربية وهي لا تزال في طور التخلق.
انكفاء واكتفاء (أفقي)
المانجا العربية الموجودة تعرف محدودية كبيرة على مستوى الانتشار وتقصيرا كبيرا في التعريف بها للناس عامة والشباب خاصة، رغم أن هذا مما يساعد كثيرا على إنجاح الإنتاج لأنك ستجد من يهتم به، لاسيما وأن الشباب اليوم يتشوف للترفيه وأدواته فله استعداد لم يتم توظيفه من قبل مبادرات نشر المانجات العربية للأسف الشديد.
ينضاف إلى ذلك افتقار هذه المبادرات لقنوات تواصلية قوية لتقريب الشباب من ثقافة المانجا والتعريف بمدى أهميتها في الرقي المعرفي والثقافي وتفرد متعتها الترفيهية واختلافها عن الأجناس الأدبية الأخرى كالرواية…
إن موقع أنترنت متقن ومنظم وجميل أقل ما يجب أن تملكه جهة ناشرة لمانجا عربية، بيد أن شركة خارقون أو مجموعة المانجاكا العربي لها مواقع أقل ما يقال عنها أنها محتشمة وخاصة الموقع الخاص بـ”الخارقون” فهو خَلِق بال.
أما التجمعات وخاصة الفيسبوكية فتعرف نوع اكتفاء هؤلاء الفنانين ببعضم البعض بعرض إبداعاتهم والانكفاء على ذواتهم وعدم فتح جسور التواصل، بل أصبحت هذه المجموعات الفيسبوكية والديسكوردية وغيرها بيئات افتراضية موازية مفارقة لما عليه واقع الناس المعاش، وهذا يساهم في توسيع الفجوة على مستوى التعريف بهذه الثقافة وتحبيبها للناس ثم أيضا على مستوى اغتراب المانجات عن الظواهر المجتمعية وبالتالي سطحيتها.
غياب التواصل القوي ونشر هذه الثقافة لن يدفع الدولة في شخص مسؤوليها ودوائرها الثقافية والفنية للتحرك أيضا.
غياب الدعم (عمودي)
الكتاب أبعد جليس في الزمكان العربي، لذلك فدولنا لا تولي اهتماما كبيرا بهذا النوع من الفنون ويعم هذا المانجا والقصص المصورة عموما، في حين أن المانجا تشكل نافذة حيوية وقوة ناعمة لأي دولة لو أحسنت احتضان الفنانين والكتاب وأحسنت تشجيعهم وتقديمهم للجمهور ودعمهم على المستوى المالي والقانوني، لكن مع غياب هذه الشروط، يصير الحمل ثقيلا على الفنان فلا يستطيع التفرغ والتركيز على إبداعه بل تذهب طاقته هباء في التصدي لواجهات عديدة بعيدة عن تخصصه.
هناك أيضا نوع من ضبابية المستقبل المهني في هذا المجال، فالكتاب العرب الذين يتكسبون من كتبه عملة نادرة، فكيف لجنس أدبي ما زال في الطور النمو أن يضمن مستقبلا مهنيا للشباب.
من المشاكل أيضا غياب دور نشر كبرى متخصصة في مجال المانجا، وتهرب دور النشر الموجودة من هذا الجنس الأدبي بذريعة عدم وجود جمهور له، ولعمري إن هذا من جملة أعذارهم مع كل المبدعين كجملتهم المشهورة:”انزع لتطبع ونوزع”، حيث يتدخلون أيضا في إبداعات اغلب الكتاب المبتدئين في أصناف الرواية والقصة والشعر بالقص والتشذيب، ولكنهم لا يستطيعون ذلك في المانجا والقصص المصورة فيسارعون للرفض وبذلك يتحملون مسؤولية كبيرة في إقبار عدد لابأس به من الإنتاجات المبدعة والواعدة.
قد يقول قائل “الإنترنت الآن بدأ يعوض هذه الطرق التقليدية”، فنجيب نعم وهذا ما تعتمده أغلب المنصات الناشرة للمانجات العربية لكن هذا حل جزئي، فالذي يتعامل بالإنترنت هو المهتم بهذا الفن حصرا، وتبقى هذه الإبداعات مختفية عن الأنظار التي قد تهتم بها لو كانت معروضة في المكتبات سهلة الاكتشاف.
ضعف التنظير والتنظيم (أفقي)
أثناء اشتغالي على الموضوع قرأت سلسلة مقالات لأحد مؤسسي منصة “المانجاكا العربي” لنشر المانجا عربيا، كانت هذه المقالات أجزاء خمسة متتابعة بعنوان “القصة أهم من الرسم”، يحاول كاتبها انتقاد بعض السلوكيات الأنانية المنتشرة بين الكتاب والرسامين وينتصر عامة للرسامين على حساب الكتاب.
لكن هذه المقالات القصيرة المحتشمة عُرضت بلغة ركيكة وتناول سطحي وطريقة استفزازية واستهزائية لا تخدم بتاتا تطوير المجال ولا تنظيم الجهود ولا الفتل في الوحدة والعمل التشاركي.
غياب شبه تام لرؤية شاملة لما يجب أن تكون عليه “مانجا عربية” ما، ولا وجود لأهداف مسطرة واضحة وواقعية وقصيرة المدى قادرة على أن تجعل للمانجا العربية موطئ قدم في الشأن الثقافي ببلداننا.
وبعض الفرق المتناثرة تعرف حقا سلوك يمكن أن أصطلح عليه “شدلي نقطعلك” معركة بين الكتاب والرسامين خاصة لا تخدم عمل الفريق وتنذر بتوقفه.
مع كل هذا توجد تجارب وخبرات وإمكانيات فائقة لدى الشباب العربي لكنها مشتتة مبعثرة تحتاج للتجميع وتوحيد التصور والقصد لا العمل على أهداف فردية قاصرة لا تخدم ثقافة المانجا، فنجاح الأفراد منوط بانتشار هذه الثقافة والقدرة على الإبداع والاستمرار.
عود على بدء (عمودي)
أخرت هذه النقطة رغم ارتباطها بـ “إمكان“، وهي النظرة الدينية لموضوع الرسم أو التصوير كما تصطلح عليه كتب الفقه، فالفتاوى المنتشرة تحرم تصوير (رسم) ذوات الأرواح لأنها مضاهاة لخلق الله تعالى، ويمكن أن نطلع على رأي أقل انتشارا وأكثر اعتدالا مثل رأي الشيخ يوسف القرضاوي الذي يسمح بالرسم ولو لبعض ذوات الأرواح بشرط أن لا تتناول الرسوم محرما ككشف عورة أو تطاول على الذات الإلهية أو تصالح مع المحرمات (راجع كتاب الحلال والحرام في الإسلام لمزيد تفصيل)…
فإن كان للدين الإسلامي حظوة وسطوة على النفوس فلابد أن يؤثر هذا على انتشار وتقبل المانجا داخل الشعوب العربية الإسلامية، ومع ذلك نرى بعض الرسامين أو الكتاب يتطاولون على بعض المقدسات الإسلامية وهذا لا يخدم هذا الفن أبدا، فلكل مجتمع خصوصياته ولابد من احترام هذه الخصوصيات للنجاح وإلا فسيلفظك المجتمع العربي المسلم ويرفضك.
وما أحوجنا لإبداع يحمل نوع مفاصلة للميوعة والتردي الأخلاقي، إبداعا رساليا مختلفا، وهذا ما نفتقده حاليا على مستوى التصور قبل الممارسة.
أمــل:
ظهرت مؤخرا مبادرة “مانجا عربية” السعودية والتي تحمل في طياتها الإجابة عن الكثير من التحديات الراهنة، فتحتوي كتابا ورسامين مبدعين، وتعمل على توفير النسخ الورقية مجانا في المكتبات، كما لها منصات تواصلية قوية: موقع، تطبيق، حسابات على مواقع التواصل…كما تقف وراءها مؤسسة قوية وهي المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام تقوم بالتمويل وعقد شراكات مع وزارات ومؤسسات كبرى، هذا على المستوى الأفقي، أما على المستوى العمودي فمرتبة السعودية في معدلات القراءة مرتفعة وهذا مما يثلج الصدر ويبشر بنجاح قريب وانتشار أوسع لهذه المواد إن كان هناك تصور واضح للعمل وتخطيط مسبق.